تبرير غير كاف

ه الآن وأنت قابع خلف تذكار ذكريات طفولتك تتصفح ألبوم صورّك ،رصيدك الذي بقي لك من القرن الماضي ،لا يهمك ما احتوى من جراحات وهوامش،عدت إلى وراء تهت،ولم تقل شيئا ،آه كم هو غال عليك وعزيز ! هذا ما لا شكّ فيه لك أو عليك ، لأنّك صراحة لا تملك غيره وأكثر من هذا هل في مقدورك أن تقبض على هذه المرحلة التي انسلخت من فواصل زمنك التي وهبها الله لك ؟ إنّها هبة من الخالق للمخلوق ،هل تذكرّت أمّك،أمّك التي أبكتك دموعا حارة و أنت تتهيّأ للسفر،جمعت حوائجك على عجل و انكسار و مضض،اغرورقت عيناك،خبّأت دمعتين في قاع بؤبؤك الأسود البعيد،تناءى إلى مسمعك صوت أمّك سائلة إيّاك :ما الذي يشدك للضفة الأخرى ؟”بلد الجن والملائكة”قالت أليس في الجزائر متسع و مساحة و فضاء ؟.الجزائر تتسع لكلّ أبنائها. ضحكت بملء فيك ولم تول لكلمات أمّك أدنى اهتمام،وهي التي علّقت عليك أملا حين تفتّحت عيناها عليك.لم تنتبه إليها ولم تحس بألمها،لم تقدرها حق قدرها وهي التي أمدّت بفمك لترضعك حليب الأبدية،أم أنّك كبرت وصرت رجلا،هل تدري أنّها بنت حلمها حين رأتك ناجحا في دراستك،وكان لك ذلك، في الوقت الذي رسب فيه آخرون ، لم تقل لها شيئا ،تناسيتها في الوقت الذي أعطتك كلّ شيء ،حملتك وهنا على وهن و لكنك نسيت،لست أدري هل كان هذا عن قصد أو غيره أم أنّ أكثر خلق الله لا ينتبهون،هل خطر على بالك أنّها كلما وسدت يدها اليمنى لترتاح قليلا تراءت لها صورتك و أنت تركض خلف الفراشات الصغيرة و الفراشات كائنات لا تعمرّن طويلا ، كحلمك تماما ، لعلك تذكرتها حين جمعت صيّاغتها وباعتها قصد إعانتك على مواصلة دراستك ، أو لم تدر أنها دفنت ماضيّها الذي لم تر فيه يوما أبيض كلّ هذا لتكبر في عيون الآخرين و تكبر عندها وأنت صغير،هذا ليس عيبا،والحلم ليس حراما.جميل أن يحلم المرء ليخرّب وضعه بأسئلة قلقة تدفعه إلى ما هو أروع. تناسيت هذا، لم تعط للأشياء قيمتها، دست على كلّ ما هو جميل و كبرت لم تتذكر أمّك الفلاحة الساذجة حين كانت تجمع بيض دجاجاتها لتبعها كلّ ذلك من أجل مصروفك اليومي،أم هذا لا يهمك ؟هذا أفضل لها من  أن تمدّ يدها البيضاء لامرأة قدّها حتى تقرضها قرضا حسنا، أو تتجرأ على أن تدّس يدها في جيب تاجر  لتسرقه؟ وأكثر من هذا هل تذكرت نهوضها في غبش الظلام لتصلي صلاتها رافعة يديّها متضرّعة للرّب أن يسدّد خطاك و يفتح عليك فتحا مبينا ، لكنك نسيت ، نسيت من أعادت عليك غطاءك وأنت في سبات عميق،نسيت من أيقظتك كلّ صبيحة،نسيت من  أعدّت فطورك،نسيت هذا وذاك والآن وأنت في ديار الآخرين؟ هل وجدت امرأة قدّ أمّك؟هل حققت شيئا من أحلامك؟ أم أنت مصدوم؟ لم أنت ساكت ؟والسكوت لم يعد علامة الرضا و أكثر من هذا كم تزن الآن في وحشة الأمكنة؟ صرت ترنو إلى اللاشيء،زاغت عيناك حيث زاغا الآخرون.                                                                                                                       غريب أنت في ديار الآخرين،لا شيء يكفيك ،عار وأنت تجوب شوارع باريس ،أحسست أنّك في عالم آخر،زمن الحداثة، زغات المطر تضفي على الأمكنة نكهة أخرى،مفتوحة على كلّ شيء. كنت تلهو بأعقاب السجائر،هل هذا يكفيك ؟أم أنّ الخمر غطّت مكامن عقلك ؟حجبت نوره و أنت تصرخ مختالا نشوان ،صورتك وهي تنعكس على واجهة المحلات زادتك غربة،نظراتك قلقة توحي أنّك جئت المدينة من عالم مسكون بالأوجاع والانهيار ،عالم يتآكل،يقتل بعضه بعضا،إحساس غريب  ينتابك كلّما غابت الشمس والشمس باردة في باريس هناك معيشة لكن لا وجود لحياة هناك و اشتعلت الأنوار ،وجنّ الليل وتيهت لفتك الطرقات وأنت تجوبها مصدوما إنّها المدينة تجدب الغرباء إليها كما تجذب النبعة وعولا ضالة، أنت تقف مغنيّا،وقفتك مشكوك فيها و ضحكتك مصطنعة وأنت تلج عتبة خمّارة،موسيقى جاز صاخبة تهزّك على وهن،هل شربت،أم قرعت الكأس حتى الثمالة كنت تغني غناءك،نسيت وطنك،أم أن الوطن صار مجرد فكرة .ماذا غنيت .. لولا المزرية،ما نخلي فاطمة وندي الرومية، أعجبتك كثيرا أليس كذلك ؟ صرت تلهث وراءها لهث الكلاب الضالة المسعورة،شدّتك باريس اليها كما تشدّ النبعة وعولا ضلت الطريق ، كأس و امرأة و وتر، نمط معيشتها، نكهتها كطعم اللّيمون،ولكن صفارات سيارة البوليس تغطي الأمكنة،القانون في الضفة الأخرى يعلو ولا يعلى عليه حتى على ساركوزي،سرّ نجاحهم العدالة وحرية الفكر والأعلام ،وأنت تلج بوابة مديرية الأمن .

قال ضابط الشرطة:جئت أم جيء بك،من تكون؟،نطقت على مضض،بلدي الثاني حينها حرّك فأرة الكمبيوتر .

– اسمك؟.

-عمار الجيلالي.

-أبوك ؟

-استشهد قتلتموه سيدي.

-معني هذا.

-ابن شهيد.

-أمك.

-أرملة شهيد.

-تاريخ ميلادك ؟

-السنة التي استيقظت فيها همم شعبي الأبي.

-مستواك؟

-طالب جامعي،تخصص تاريخ .

-هذا لا يهمنا.

-بل يهمني أكثر .

-أنت في دولة فرنسا الحديثة.

– والقديمة؟

-هذا شيء آخر …

-وظيفتك  ؟

-لا وظيفة لي مستقرة.

-معنى هذا تمارس عملا.

-من حين لآخر.

-مثلا؟

-مستخلف في بنك..

-البنك ،أنت إطار.

-يفترض هذا.ولكن.

-ماذا ؟

-دولتكم !دولتنا ما بها ؟

-لا بد أن تكون متجنّسا لتعمل في مؤسسة ما.

-هذا ما يجب .

-و نحن جئنا لفرنسا لنأخذ حقنا،فرنسا تتحمل مسؤولية تخلفنا.

Picture on top: “Pine by the Mediterranean Sea” by Theo van Rysselberghe

Leave a comment